يستمر “كرسي الأندلس” بأكاديمية المملكة المغربية في الحفر في تجذر الثقافة الأندلسية بضفتي المتوسط والمغرب وإسبانيا خاصة، مع ندوة دولية، انطلقت اليوم الأربعاء بمقر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب بالرباط، التابع للأكاديمية، يشارك فيها أكاديميون مغاربة وإسبان ومن دول أخرى موضوعها “أصداء الأندلس” بتركيز على “تمظهراتها وتمثلاتها في الثقافة الشعبية”.
وتناقش الندوة، التي تستمر اليوم الأربعاء وغدا الخميس، مواضيع من قبيل: تطور الأنساب، والعادات الأندلسية، والحكايات والأمثال الشعبية، والأسطوانات الموسيقية، وفنون القول، والمتخيل الأندلسي في رياضة مصارعة الثيران، والألعاب الترفيهية، والحلي واللباس، والأغاني، والفرق الموسيقية الإسبانية، والمدن، والصناعة التقليدية، وأثرها في الاستشراق الأمريكي الجنوبي (اللاتيني).
الأندلس أفقا للمستقبل
قال عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن تطلع الأكاديمية هو “أن تسهم المناقشات والأعمال العلمية التي تُطرح خلال هذه الفعالية في تعميق فهمنا لهذا التراث الحضاري الفريد، وتعزيز جسور الحوار والتبادل الفكري بين الباحثين والمختصين (…) وأن تكون هذه الندوة انطلاقة واعدة نحو آفاق أرحب من التعاون العلمي والإبداع المعرفي”.
وأبرز لحجمري أهمية الاهتمام “بتمثلات الأندلس في الثقافة الشعبية المعاصرة بين المغرب وإسبانيا (…) للكشف عن عمق التفاعل الحضاري بين الضفتين، وما تحمله من أبعاد متنوعة للذاكرة الثقافية المشتركة التي توارثتها الأجيال عبر توالي القرون؛ فقد جسدت الثقافة الأندلسية نموذجا حضاريا متفردا، نهل من تنوع الروافد الإنسانية وتكاملها. ورغم اندثار كيانها السياسي منذ أكثر من خمسة قرون، فإن آثارها لا تزال نابضة بالحياة في الذاكرة الجماعية، تتجلى في تناغم تقاليدها وتلاقح ثقافاتها وأساليبها المتنوعة في التفكير والمعيشة، مما يجعلها إرثا خالدا يعبر الأزمنة والحدود”.
ثم استرسل لحجمري قائلا: “الأندلس أكثر من مجرد إرث تاريخي؛ إنها رمز حي يتجدد في الوجدان وفي الإبداعات الثقافية، مما يفتح المجال لإعادة النظر في مفاهيم التعدد والتعايش ضمن سياق معاصر يتطور باستمرار”، مما يفسر طموح “كرسي الأندلس” بالأكاديمية إلى تنظيم مثل هذه الندوات “لتكون حلقة علمية لاستكشاف الديناميات الثقافية والاجتماعية التي تعيد تشكيل العلاقة مع الأندلس، مما يعزز من أهمية الحوار بين الثقافات ويفتح آفاقا لبناء جسور تفاعل فكري مُسْتدام”.
وزاد: “تمثل الأندلس في المخيال والذاكرة الجماعية فضاء زمنيا ومكانيا مُشبعا بدلالات التفوق الحضاري والتفاعل الثقافي، إذ ارتبطت بفترة ازدهار فكري وتعايش ديني وثقافي نادر المثال. بذلك، اعتبرت الأندلس دلالة عن للحلم المفقود في الوجدان العربي والإسلامي، مما رسخها في الذاكرة رمزا للهوية المثالية ومصدرا للحنين والتأمل في أسباب السقوط، كما أنها تحضر في الأدب والفن باعتبارها صورة لثُنائية الأمل والخيبة، حين تتشابكُ معاني الحنين والأسى بهُوية ثقافية تجمعُ بين اسْتذكار الازدهار واستيعاب دُروس الانْهيار”، و”بهذا المعنى، تُعد تمثلات الأندلس في الثقافة الشعبية المعاصرة بين المغرب وإسبانيا من الظواهر الثقافية الأكثر إثارة للتأمل والدراسة”.
بالتالي “يتجاوز موضوع هذه الندوة حدود الجغرافيا والتاريخ ليُبرز الأندلس بوصفها تمثلا حيا يستمر في التفاعل مع الهوية الثقافية المعاصرة للشعبين المغربي والإسباني”.
وشدد أمين سر أكاديمية المملكة المغربية على أن “الأندلس، التي شهدت إحدى أزهى فترات التاريخ العربي والإسلامي”، لم تندثر بزوال وجودها الجغرافي ككيان سياسي؛ بل “ظلت فكرة حية تتردد أصداؤها في الذاكرة الجماعية.
وأشار الباحثون إلى أن استحضار الأندلس في الثقافة المغربية يتخذ بُعدا مزدوجا؛ فهو، من جهة، امتداد ثقافي يعكس الإرث الحضاري الذي حمله المورسكيون. ومن جهة أخرى، تجسيد لهوية مغربية تتجدد من خلال هذا الرابط التاريخي العميق. وفي المقابل، تظل الأندلس في إسبانيا رمزا للفخر بما تحقق من تمازج ثقافي، يتم الاحتفاءُ فيه بتفاعل الحضارات المختلفة”.
إذن، “لم تعد الأندلس مجرد ذكرى للماضي؛ بل أضحت أفقا للتفكير في الحاضر والمستقبل، وخطابا ثقافيا يُعيد قراءة تلك الحقبة بما يعزز قيم التعددية والانفتاح على الآخر. بهذا الاعتبار، ليست تمثلات الأندلس في الثقافة الشعبية ثابتة، بل هي متطورة ومتجددة، تتفاعل مع التغيرات الاجتماعية والثقافية عبر العصور.
وبعد تعديد مجموعة من تمظهرات استمرار حضور الأندلس أو استلهامها في المغرب، معمارا وطبخا وموسيقى وألعابا ولباسا على سبيل المثال لا الحصر، قال لحجمري: “ما من شك في أن إدراج الرافد الأندلسي في دستور المملكة المغربية يمثل إقرارا بأثر هذه الحضارة في تشكل الهوية المغربية، ويعكس التقدير المستمر للإرث الثقافي الذي أسهمت به الأندلس في إثراء الثقافة العربية الإسلامية. من هذا المنطلق، يعزز هذا الاعتراف الدستوري أيضا أهمية الحفاظ على التنوع الثقافي الذي يميز الأمة المغربية، ويؤكد أن هويتها تشكلت من مزيج فريد من الموروثات الثقافية التي تسهم في بناء مجتمع غني بالتراث وقيم الانفتاح والتعايش”.
الأندلس حاضرٌ ومستقبل
إنريكي أوخيدا بيلا، سفير إسبانيا بالمغرب، ساند رؤية أمين سر أكاديمية المملكة قائلا: “هذه النقاشات ليست مجرد تفكير في الماضي (…) وكل استحقاق إنساني ورياضي وثقافي، ثمرة لهذا التراث والماضي والإرث المشترك الأندلسي”.
وأضاف في كلمته: “الأندلس، على مدار التاريخ، نقطة التقاء بين إسبانيا والمغرب.. والكرسي الذي أنشئ منذ سنة بأكاديمية المملكة المغربية، عرف تنظيم مؤتمر كبير حول الأندلس، وشهد مشاركة باحثين من البلدين وبلدان أخرى، وشكل مناسبة مثمرة للحوار بين الأساتذة العالمين والمتخصصين في الموضوع، وما تمثله الأندلس بالنسبة لثقافتنا المشتركة والثقافة العالمية”.
وتابع قائلا إن ثقافة الأندلس متواصلة، وتكشفها عبر خطوط مشتركة للبحث العلمي، من خلال البحث في الثقافة الشعبية المستمرة إلى اليوم في إسبانيا والمغرب، ومختلف التمظهرات الثقافية على جانبي البوغاز، وإلقاء الضوء على ما يجمعنا، أحيانا بغير وعي”.
وأحال في هذا السياق على أحدث أنشطة أكاديمية المملكة التي نُظمت بقمرها بالرباط، وشهدت تقديم الأطباق الأندلسية كما استمرت في المطبخين المغربي والإسباني.
واليوم، هذا المؤتمر بالعاصمة يهتم بأصداء الأندلس والرؤى المعاصرة، مسهما، وفق سفير مدريد بالرباط، “في متابعة العمل الدؤوب الذي نقوم به، ويركز على المظاهر الشعبية، مثل الحج، والزيارة الشعبية للأولياء، والصناعة التقليدية؛ فالتمظهرات الثقافية خطوط لقاء كبيرة بين البلدين، ومثلا حضرت موكب الشموع في سلا، من الصعب، مع حفظ الاختلافات، ولا يمكن أن تغادر خيالنا المواكب الشعبية المقدسة بإسبانيا”.
هذا الموعد الأكاديمي الثقافي، وفق السفير، “نقطة بداية لأبحاث أكبر، والإنصات لإسهامات المتخصصين، وطرح أسئلة جديدة حول كل الأشياء التي نكتشفها (…) والتقريب بين البلدين عبر البحث”، وهو عمل تسنده مؤسسات؛ من بينها “البيت العربي” بإسبانيا، ومؤسسة الثقافات الثلاث للمتوسط، والأكاديمية الملكية للتاريخ، والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب التابع لأكاديمية المملكة المغربية.
ثم ختم السفير أوخيدا بيلا كلمته بقول إن “الأندلس تمنحنا إرثا مشتركا، نعيشه على الضفتين، ولعبت وتلعب هذا الدور الكبير في توحيدنا، ودستور المملكة المغربية يشير إلى الرافد الأندلسي (…) ونريد أن نفكر ونتحاور حول الحاضر والمستقبل أيضا، الذي نبنيه في إسبانيا والمغرب يوما بعد يوم (…) لأن (كرسي الأندلس) بالأكاديمية مكان لدعم اللقاء، ودعم لا العلاقات التاريخية فحسب، بل الحاضر والمستقبل أيضا”.
" frameborder="0">